في الكتاب الشهير "قوة الآن" يسوق المؤلف إيكهارت تول قصة طريفة لعابر سبيل مر على متسول يتخذ من قارعة طريق مكانا له منذ ثلاثين سنة جالسا على نفس الصندوق مادا يده للمارة، بينما كان المتسول ينتظر إحسانا من الرجل الغريب عابر السبيل، فاجأه الرجل بسؤال: ما الذي تجلس عليه؟ أجاب المتسول: لا شيء، إنه صندوق... مجرد صندوق، وبادره الرجل بسؤال آخر: وماذا في داخل الصندوق؟ هل تعرف؟، أجاب المتسول: لا، لم أكترث بالطبع، أنا أجلس عليه منذ أمد بعيد؟ سأله الرجل: لماذا لا تفتح الصندوق وتنظر ما بداخله... ومع إلحاح الرجل، فتح المتسول الصندوق، فإذا الصندوق مملوء بالذهب!.. يقول إيكهارت عن القصة أنه يستشهد بها، لإيضاح علاقته بالقارئ، الذي لا يملك له سوى أن يدله على موضع الذهب ومكمن الثروة الفعلية في حياته..
****
مؤسساتنا تنهض على كفاءات "ذهبية" تشكل ركاز وأصل مشروع نجاحها وعمود قوتها، وهي تعي بشكل متزايد أهمية الاستثمار في تطوير قدرات موظفيها وتنمية معارفهم واتجاهاتهم الإيجابية نحو ثقافة العمل المؤسسي الناجح، وفي دول عربية عدة يتضح لنا نشاط دائب وتطور ملحوظ في حجم مخصصات التدريب وتنمية الموارد البشرية، وهذا من حيث المبدأ توجه يتسم بالمسئولية وتعضده طموحات رائدة لتحقيق مكاسب بعيدة المدى على مستوى التنمية المستدامة.
لكن الاعتقاد السائد بأن التدريب يحل كل عوائق الإنتاج، ويعالج كل أسباب الخلل في الأداء، ينبغي أن يبقى محل نقاش وتساؤل جاد من القائمين على وضع ميزانيات ومخصصات التدريب والمشتغلين أيضا في هذا المجال الحيوي وبالأخص عند تصميم خطط التدريب السنوية، وفي الرسالة السابقة المعنونة بـ "القيمة الاقتصادية للتدريب" أشرت إلى أرقام مذهلة في حجم مخصصات التدريب في البلاد العربية، ونتمنى أن نصل إلى معلومات واضحة وشفافة حول إنفاق كل بلد عربي على حدة في مجال التدريب.
بحكم قربي من العمل الحكومي، أؤمن أن هناك توجها مستمرا للاستفادة من خدمات التدريب المقدمة عبر القطاع الخاص الذي أخذ بزمام المبادرة في السنوات الأخيرة للاستثمار في مجال التدريب بشكل متسارع، فرضته أدوات وتحديات الاقتصاد الجديد ومؤشرات التنمية في البلاد العربية على وجه العموم، وأصبحت أنشطة "وسطاء التدريب" تشكل بعدا أساسيا ضمن أنشطة التدريب بصورة عامة، وتوجهت أغلب الجهات الحكومية لـ"شراء" برامج تدريبية نوعية، لاسيما تلك التي تستهدف الإدارات الوسطى والعليا، هذا إلى جانب البعثات التدريبية القصيرة خارج الدولة، وفي دولة كسلطنة عمان – على سبيل المثال- تم إبتعاث أكثر من 850 متدرب خارج السلطنة خلال العام 2009، 28% منهم تم تدريبهم في دول أوربية وآسيوية، فيما يشكل عدد الذي تدريبهم في دول خليجية وعربية أكثر من 64% من الموظفين الذين تم تدريبهم خارج البلاد، وهذه الأرقام تخص موظفي قطاع الخدمة المدنية فقط!
ليس للتدريب قيمة أصيلة في حد ذاته، إنه يكتسب قيمته وأهميته من الأثر الذي يتركه على بيئة العمل ومعدلات الانتاج، ولا يقدم التدريب حلولا سحرية، ولذا لا ينبغي أن يكون عملا نمطيا روتينيا تعمد إليه المؤسسات في كل الأحوال، هناك فرصة دائمة لأن تعتمد المؤسسة -لاسيما وحدات تنمية الموارد البشرية- إلى ابتكار حزمة متجددة وفاعلة من الأفكار والمبادرات والأنشطة التي تناسب أهدافها الفعلية ونوعية خدماتها و إمكاناتها و هيكلها التنظيمي وتنسجم مع مناخ المؤسسة وثقافتها التنظيمية، التي من المفترض أن يكون ضمن أسس عملها تحقيق الأهداف بأقل كلفة وأقل جهد ممكن، وهو ما يعرف بالكفاءة. وإن كانت الكفاءة مفهوما نسبيا إلى حد ما، لكنها في حدها الأدنى من الفهم والممارسة تعطي تصورا للعلاقة بين موارد المشروع/العملية ونتائجها المتوقعة، فإذا طبقنا ذلك على التدريب، سيتضح وجود بدائل أفضل بكثير من الاعتماد المستمر على التدريب، أو على الأقل اعتماد أساليب متنوعة للتدريب من بينها تدريب الزملاء، والتدريب المكتبي، وهذه أدوات سنأتي على مناقشة كيفية تطبيقها في تدوينات قادمة .
وعلى سبيل المثال، قد يؤدي تنظيم يوم مفتوح في مناسبة معينة نتائج أفضل من دفع مبالغ طائلة لشراء برنامج تدريبي من جهة خاصة، و قد يكون إنشاء مدونة أو ساحة حوار خاصة بدائرة أو قسم معين لتبادل الأفكار والتجارب حول تحسين أداء آلة أو تطوير ندوة أو ملتقى علمي أكثر واقعية وعملية من تكاليف البرامج التدريبية، وتتطلب جهدا أقل وتوفر الوقت الذي يلزم لتفريغ الموظف، بل أن تفعيل البريد الالكتروني بشكل صحيح بين أقسام ودوائر المؤسسة الواحدة، يمكن أن يلعب دورا محوريا في تشجيع الموظفين على التعلم الذاتي المرتبط بمهامهم ومساراتهم المهنية، وأيضا تخفيض الفاقد الحاصل من عملية التدريب لأسباب مختلفة.
الخلاصةهي أن الأدوار الجديدة لوحدات تنمية الموارد البشرية ينبغي أن تتطور بموازاة التوجهات الحديثة للباحثين و المشتغلين في هذا المجال الحيوي، وينبغي طرح الأسئلة العلمية القيمة حول قياس العائد على الاستثمار في التدريب، وتطوير الخيارات والبدائل التي تعتمدها وحدات ومراكز التدريب والمشرفين المباشرين لتقليل تكاليف التدريب، والوصول إلى تنمية فعلية لمهارات العاملين، وتوظيف عملي لمحتويات التعلم الجديد الذي تثبت الدراسات أنه يصبح أكثر فعالية حينما يكون أكثر ارتباطا بمهام الموظف والتوقعات منه وتوقعاته هو أيضا من بيئة العمل، وليس التدريب وحده ما يمكنه أن يقدم مثل هذه الميزة، بل حتى الاجتماعات المكتبية أو الميدانية الثنائية أو الجماعية والنقاشات المفتوحة الممنهجة وبحوث العمل يمكنها أن توفر مساحة علمية وعملية لنقل المعارف والمهارات الجديدة بشكل أكبر وأقرب إلى حيز التطبيق.
حين نتبع ذات الوسائل سنحصل باستمرار على نفس النتائج، وكل ما نحتاجه هو أن نركز على تحديد ما نحتاجه فعليا، وما هي أسهل وأفضل الطرق للوصول إليه وأقلها كلفة... حينها، من يعرف، قد نقول : أوقفوا التدريب!
هناك تعليق واحد:
مدونة مفيدة يا أحمد، وفقك الله.. متابعون لك ولإبداعك، واهتماماتك المميزة.. شكرا لك.
إرسال تعليق