خرجت نظرية رأس المال البشري من رحم النظرية الاقتصادية ذائعة الصيت وبالغة التأثير في عالم اليوم، وقبل صاحبنا "المعلم شولتز"، كانت النظريات المبكرة تشير إلى رأس المال البشري ببساطة على أنه قوة العمل workforce، كعنصر من عناصر الإنتاج، وجهود شولتز Schultz جاءت لسد فجوة في الاهتمام بعناصر القيمة الاقتصادية غير المادية، حيث كان اهتمام أسلافه من المنظرين ينصب على الأصول assets المادية للإنتاج كالآلات والأراضي، ، وفعليا، كل ما قام به Schultz ومجموعة أخرى من المنظرين أمثال روبرت سولو R.Solowوجاري بيكر G.S.Becker، هو لفت الانتباه أو تأكيد الاعتبار لمعارف ومهارات الفرد على أنها حجر زاوية في زيادة الإنتاجية وتحقيق قيمة اقتصادية أكبر للمؤسسة والمجتمع، وبين ظهور آدم سميث بكتابه الشهير the wealth of Nations (ثروة الأمم)، واجتهادات شولتز وغيره، تراكم وعي كبير بأهمية التعليم والتدريب للتنمية الاقتصادية للأمم، عبر مؤلفات ومقالات مارشال Marshal وكارل ماركس Karl Marx...
وبالتالي يصبح التدريب والتعليم -الذي يستهدف زيادة معارف الموظفين وصقل مهاراتهم وتعزيز اتجاهاتهم الإيجابية نحو ثقافة المؤسسة وأهدافها - نشاطا استثماريا يفترض به أن يعود على المؤسسة بعوائد مرتبطة فعليا بزيادة إنتاجيتها وقدرتها التنافسية، وبالتالي ربحيتها، في حال تحدثنا عن المؤسسات الربحية، أي أن التدريب استثمار في رأس مال المؤسسة.
ولأن توظيف المعرفة وإعادة إنتاجها هما السمتان الأبرز لأفضل الاقتصاديات في عالم اليوم، بالنظر إلى شكل ونمط الاقتصاد المعاصر، وهي أيضا المحك الأول الذي تقوم عليه التنافسية الشديدة المفروضة بفعل نتائج العولمة، فإن التدريب كمنظومة علمية مخططة يدخل في صلب هذا الوجه المعاصر للاقتصاد، ومتغيراته وأبعاده.
****
ولتقريب وجهة نظري هذه، سأخبركم أني انشغلت لربع ساعة على الأقل قبل أيام بحساب تفاصيل مناقصات التدريب التي وقعتها وزارة القوى العاملة في سلطنة عمان، ضمن خططها الطموحة لتدريب الشباب العماني، يقول الخبر الذي أعلن عبر وسائل الإعلام المحلية بأن معالي الوزير قام بالتوقيع على 23 اتفاقية تدريب وتشغيل لعدد 1262 شاب وشابة، بمبلغ مليوني وسبعمائة وستة آلاف ريال عماني (أكثر من خمسة ملايين وخمسة عشر ألف دولار أمريكي)، وبالطبع هذه "الحزمة" ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، بحسب تصريح سعادة وكيل الوزارة للتعليم التقني والتدريب المهني، هذا الطموح والمبادرات الحكومية الرائدة، ينبغي دائما أن يصاحبها أسئلة جادة حول تقييم العائد الاقتصادي الفعلي، على هكذا استثمار عظيم ومقدر... ومختصر الحديث هنا، هو القيمة الاقتصادية المتوقعة للاستثمار في التدريب، وحجم الإنفاق الذي ينبغي للمتدربين أيضا أن يثمنوه ويفهموا غاياته وتوقعات مؤسسات الدولة منه.
****
أيضا، يمكنكم أن تعودوا إلى قصص التنمية والنجاح الآخذة في التحقق، سواء في ماليزيا أو الصين أو الهند كأمثلة واضحة، لندرك معنى القيمة الاقتصادية للتدريب وتنمية الموارد البشرية، ويخطئ من يظن أن اقتصاد الصين الفعلي قادم من محلات (رامز) وما على شاكلتها، من يريد أن يعي التركيبة المعقدة للاقتصاد الصيني، فليبحث عن مئات الآلاف من الطلاب الصينيين الذي يدرسون في الجامعات الأوروبية والأمريكية... كذلك الملايين التي يستدرها الاقتصاد الماليزي من وجود عشرات الآلاف من الطلاب الأجانب، لم تأت من فراغ، بل كعائد على الاستثمار في قطاع التعليم العالي، ... وحين تستقطب ماليزيا 100 ألف طالب أجنبي للدراسة ، فإنها تعي تماما ما تفعل، فمتوسط الإنفاق الشهري للطالب الأجنبي هنا وفقا لتجربتي هي 250 دولار أمريكي، وفي حال وجود 100 ألف طالب، سيكون الإنفاق الشهري لهؤلاء 25 مليون دولار، هذا عدا تكاليف البرامج الدراسية)، وحين اختارت الهند وزيرها كابيل سيبال وزير تنمية الموارد البشرية للإعلان عن إنتاج أرخص حاسب آلي بقيمة 35 دولار، كان علي أن أتوقف لأسال .. لماذا وزير تنمية الموارد البشرية؟!... وبالمناسبة، تعتزم الهند، خفض تكلفة إنتاج الحاسب المحمول إلى 10 دولار، وهي الهند نفسها التي أطلقت قبل أسابيع خمس مركبات فضائية، من بينها مركبة صغيرة قام طلاب بتصميمها، وقمر صناعي خفيف وأيضا من تصميم طلاب هندسة...
أستطيعأن أزعم بأني أعيش عن قرب " الحلم الماليزي" الآخذ في التشكل، وكم "يستفزني" كلام بعض المحاضرين هنا، حين يتحدثون عن النموذج الاقتصادي الجديد لماليزيا، هذا البلد الذي تحول من بلد مصدر للمواد الخام كزيت النخيل والمطاط إلى بلد صناعي منافس على قائمة الاقتصاديات الصناعية، وهو يجتهد بخطى حثيثة لتجاوز هذه المرحلة إلى الاقتصاد المبني على المعرفة، استنادا إلى ....ماذا؟
استنادا إلى حجم الإنفاق الهائل على التدريب وتنمية الموارد البشرية...وعلى سبيل المثال، تشترك أكثر من 230 شركة في تمويل صندوق تنمية الموارد البشرية Malayasia HRD Fund الذي يسهم بفعالية في تمويل ورعاية برامج تدريب العاملين والموظفين هنا.
***
ينفق العالم أكثر من 800 مليار دولار على التدريب، وتنفق الولايات المتحدة وحدها ما يربو على 100 مليار دولار أمريكي... وينفق العالم العربي، ما يقارب ال 200 مليار دولار...بلغة الأرقام والاقتصاد، حين نتحدث عن التدريب فنحن فعليا نتحدث عن استثمار هائل في الإنسان...
ويبقى السؤال: هل هناك إيرادات ضائعة لهذا الاستثمار الضخم؟
الجواب: نعم... كيف؟ لماذا؟ وماذا يمكن أن نفعل؟... هذا ما سنتحدث عنه في مقالات وتدوينات قادمة!
ويبقى السؤال: هل هناك إيرادات ضائعة لهذا الاستثمار الضخم؟
الجواب: نعم... كيف؟ لماذا؟ وماذا يمكن أن نفعل؟... هذا ما سنتحدث عنه في مقالات وتدوينات قادمة!
* يمكنك نقل المقال أو إعادة إرساله - مشكورا- إلى الأصدقاء والزملاء المهتمين، بالإشارة إلى مصدره، مع فائق شكري وتقديري
www.arabhrd.blogspot.com
هناك 4 تعليقات:
شكرا أحمد، أولا أبارك لك إنشاء المدونة، ونتمنى هذه المرة ألا تتوقف، تفاصيل مذهلة عن التدريب وننتظر منك المزيدوكالعادة أسلوبك في الكتابة يدفع القارئ إلى عدم التوقف..وموفق دائما.. (أبو لؤي)
سؤال يضع نفسه هل حجم الانفاق فى العالم العربى فى التدريب والتأهيل يساوى ما سوف يتم التحصل عليه من الفئات المستهدفه؟؟؟؟
مشكور على الموضوع ونترقب الاجابه عن القريب
دمتم سالمين
أستاذ/أحمد.السلام عليك، شكرا بحجم هذا الإبداع، لك أصدق التحايا والأمنيات، اقتراحي لو نعرف، موعد نشر كل مقال جديد ليتسنى المتابعة معك.. جهد رائع وذكي..شكرا مرة أخرى
شكرا لكم جميعا، يبدو أني تنبهت متأخرا جدا للرد على تعليقاتكم الكريمة، شكرا لزيارتكم.. وبإذن الله ن تجيب المقالات والرسائل القادمة على بعض تساؤلاتكم.. لا أستطيع بصدق،تحديد موعد دائم لإسال مقالات جديدة، لكن أجتهد - وفق المتاح من الوقت- أن أكتب مقالين كل أسبوع.. شكرا لكم
إرسال تعليق